الأحد، 4 أبريل 2010

كتب : ياسر أبو العلا

أسهم الإسلام بشكل كبير في الحضارة العالمية في عدد كبير من المجالات، ولعل ذلك يرجع إلى أن الإسلام عالمي، يحض على العلم ويعتبره فريضة على كل مسلم؛ لتنهض أممه وشعوبه، ولم يكن في أي وقت مدعاة للتخلف كما يدعي الغرب.

فالإسلام يقبل أي علم، سوى ما كان يخالف قواعد الإسلام ونواهيه. فالرسول دعا لطلب العلم ولو كان بالصين. والإسلام يكرم العلماء ويجعلهم ورثة الأنبياء، ويحضهم على طلبه من المهد إلى اللحد. وتتميز الحضارة الإسلامية بالتوحيد والتنوع العرقي في الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية.

في السطور التالية ننقل رأى المؤرخ الكبير "سعيد عبد الفتاح عاشور" ـ رئيس اتحاد المؤرخين العرب ـ حول مدى إسهام المسلمين حضاريا، وماذا استفاد العالم من مبدعينا في كافة المجالات.

الإسلام وتشجيع العلم

يقول الدكتور سعيد عاشور: «لأن الإسلام لا يعرف الكهنوت كما كانت تعرفه أوروبا، ولأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، كانت الفلسفة يخضعها الفلاسفة المسلمون للقواعد الأصولية، مما أظهر علم الكلام الذي يعتبر علما في الإلهيات، فترجمت أعمالها في أوربا، وكان له تأثيره في ظهور الفلسفة الحديثة وتحرير العلم من الكهنوت الكنسي فيما بعد. مما حقق ظهور عصر النهضة في أوربا. فالنهضة الإسلامية جعلت من العرب والشعوب الإسلامية حَمَلة للمشاعل التنويرية للعالم في العصور الوسطى، حتى أصبحوا فيها سادة العالم ومعلميه. فلقد حقق الفرس والمصريون والهنود والأتراك المسلمون حضاراتٍ لهم في ظل الإسلام، لم يسبق لهم تحقيقها خلال حضاراتهم التي سبقت الإسلام، فأثرَوْا بعلومهم التي اكتسبوها الحضارة الإسلامية التي ازدهرت وتنوعت وتنامت».

ويضيف:«...لهذا لما دخل الإسلام هذه الشعوب لم يضعها في بيات حضاري، ولكنه أخذ بها ووضعها على المضمار الحضاري، لتركض فيه بلا جامح أو كابح. وكانت مشاعل هذه الحضارة الفتية تبدد ظلمات الجهل وتنير للبشرية طريقها من خلال التمدن الإسلامي. فبينما كانت الحضارة الإسلامية تموج بديار الإسلام من الأندلس غربا لتخوم الصين شرقا، كانت أوربا وبقية أنحاء المعمورة تعيش في ظلام حضاري وجهل مطبق. «

الغرب نهل من حضارتنا

امتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على الغرب وتطرق أبوابه، فنهل منها معارفه، وبُهر بها لأصالتها المعرفية والعلمية، مما جعله يشعر بالدونية الحضارية، فثار على الكهنوت الديني ووصاية الكنيسة وهيمنتها على الفكر الإسلامي حتى لا يشيع، لكن رغم هذا التعتيم زهت الحضارة الإسلامية وشاعت، وانبهر فلاسفة وعلماء أوربا من هذا الغيث الحضاري الذي فاض عليهم، فثاروا على الكنيسة، وتمردوا عليها وقبضوا على العلوم الإسلامية كمن يقبض على الجمر؛ خشية هيمنة الكنيسة التي عقدت لهم محاكم التفتيش والإحراق. ولكن الفكر الإسلامي قد تمكن منهم، وأصبحت الكتب الإسلامية التراثية ـ والتي خلفها عباقرة الحضارة الإسلامية ـ فكرا شائعا ومبهرا».

ولكن هل يجب أن تكون تلك المؤلفات عربية الأصل؟ يجيب الدكتور سعيد عاشور قائلا: «عندما نشير إلى مؤلفات العرب وعلومهم، فإننا لا نعني أن كل هذه المؤلفات والعلوم ذات أصول عربية بحتة، أو أن كل ما فيها من معارف جاء من خلق علماء المسلمين وابتكارهم، فالحضارة الإسلامية اتصفت بسعة الأفق والتسامح وعدم التزمت، ونادى الإسلام بطلب العلم ولو في الصين، مع معرفة المسلمين ببُعد الصين من ناحية، وبأن أهلها وثنيون من ناحية أخرى».

انفتاح على الشعوب

منذ البداية لم يتردد المسلمون في الاستفادة من معارف السابقين ونقل ما صادفوه من مؤلفاتهم إلى العربية، بصرف النظر عن عقيدتهم ومللهم ونحلهم، ومن هذا المنطلق شرع المسلمون في ترجمة الكثير من كتب اليونان والفرس والهنود وغيرهم إلى العربية، ولكن دور علماء المسلمين لم يقتصر على الإفادة من جهود غيرهم، ونقل مؤلفات السابقين إلى لغتهم، وإنما يأتي إسهامهم العظيم في ميدان الحضارة في تفنيد ما في هذه الكتب والمؤلفات من معلومات، وتصحيح ما فيها من أخطاء، والربط بين ما جاء في أطرافها من معارف متناثرة وشذرات متباعدة، وشرح تفسير ما قد يكون غامضا منها، ثم إضافة الجديد من المعلومات التي توصل إليها علماء المسلمين ولم يعرفها غيرهم من السابقين. وبذلك نجح علماء المسلمين في إقامة بناء حضاري لا يمكن أن يوصف إلا بأنه بناء إسلامي.

وهل يقلل من قيمة الحضارة الإسلامية أنها أقامت بنيانها في بعض المجالات ـ كالفلسفة والعلوم التجريبية أو العقلية ـ على أسس غير إسلامية؟

يرد رئيس اتحاد المؤرخين العرب بالنفي، موضحا أن ارتقاء الحضارة البشرية يقوم على مبدأ استفادة الخلف من جهود السلف، وبفضل ذلك ارتفع صرح الحضارة البشرية طبقة بعد أخرى. ولو التزم كل جيل بأن يبدأ المسيرة الحضارية من نقطة الصفر، معرضا عما توصل إليه السابقون من إنجازات، لما نزل الإنسان في القرن العشرين على سطح القمر، ولوجدنا أنفسنا اليوم نشعل النار عن طريق قدح حجرين بعضهما ببعض، أسوة بما فعل الإنسان الأول، ولكن عظمة الحضارة الإسلامية تنبع من أن دورها لم يقتصر على النقل عن السابقين، وإنما تعدى ذلك إلى التصحيح والربط والتوفيق، ثم الابتكار والخلق والإبداع والإضافة.

ثم إن بناة الحضارة الإسلامية لم يفعلوا كما فعل رجال الكنيسة والأديرة: من إحراق كتب الوثنيين، وهدم معابدهم، ونبذ تراثهم، دون تفرقة بين الصالح منه وغير الصالح. وإنما احترم علماء المسلمين ما خلفه السابقون- وثنيين كانوا أو ذميين- من تراث، وأشادوا بعلمائهم واعترفوا بفضل أولي الفضل منهم، دون تعصب لدين أو لمذهب، ودون اعتبار لجنس أو ملة. فالعلم النافع في نظرهم يأتي فوق كافة الاعتبارات العقائدية أو العنصرية.

موضوعية وأمانة

ويضرب عاشور أمثلة على ذلك بما فعله (ابن أبي أصيبعه) الذي استهل مؤلـَّفه المعروف "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" بذكر الأطباء اليونانيين القدامى ـ مثل (أسقليبيوس) و(أبقراط) ـ فيقول عن الأول: «هو أول من ذُكر من الأطباء، وأول من تكلم في شيء من الطب على طريقة التجربة». ويشيد بالثاني ممتدحا العهد الذي وضعه (قسم أبقراط)، واصفا إياه بالطهارة والفضيلة.

وعندما يتطرق ابن أبي أصيبعه إلى مشاهير الأطباء في ظل دولة الإسلام في المشرق أو المغرب، لا يسقط من تعداده طبيبا مسيحيا أو يهوديا، وإنما يصف الواحد منهم بأنه صابئي أو مسيحي أو يهودي، ويقرن ذلك بالثناء على علمه وفضله معددا إنجازاته ومؤلفاته.. كل ذلك في تسامح وسماحة لا نظير لهما إطلاقا في عالم العصور الوسطى، الأمر لذي دفع أحد الكتاب الأوربيين المحدثين إلى القول بأن: «الحضارة الإسلامية نمت بسبب تسامحها إزاء العناصر الأجنبي«.

فضلا عن أن الحضارة الإسلامية لا تقتصر على النقل عن السابقين، وشرح ما صعب من كتاباتهم، وتصحيح ما وقعوا فيه من أخطاء وإضافة الجديد إلى ما تحتويه من معارف، وإنما يضاف إلى هذا كله الإسهام بدور كبير في حفظ جانب مهم من تراث السابقين. وقد ثبت أن هناك كتبا ومؤلفات عديدة ألفها علماء اليونان في العصور القديمة - وبخاصة في الفلسفة والطب - ضاعت أصولها اليونانية، ولم يعد العالم يعرفها إلا من خلال الترجمات العربية وحدها.

رواد في الطب

ويحدد (رئيس اتحاد المؤرخين العرب) تخصصا واحدا للتدليل على الإسهام العلمي للمسلمين في الطب، حيث يشير إلى أن تسرب معلومات المسلمين في الطب إلى جنوب إيطاليا تم منذ وقت مبكر يرجع إلى القرن التاسع للميلاد، أي قبل عصر قسطنطين الإفريقي بنحو قرنين من الزمان. وإذا كان التاريخ يتحدث عن فتح المسلمين لجزيرة صقلية أيام زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب سنة 212 هـ (827 م)، فإن التاريخ يذكر أيضا أن عهد زيادة الله هذا شهد نهضة في علم الطب في دولة الأغالبة شمال إفريقيا، كان من أعلامها إسحق بن عمران، وهو طبيب مشهور، وعالم مذكور، وهو مسلم النحلة، وكان طبيبا حاذقا متميزا بتأليف الأدوية المركبة، بصيرا بتفرقة العلل، استوطن القيروان.. وألف كتبا منها كتبه في الفصد، و النبض، والأدوية المفردة.

وهكذا فإن امتداد النفوذ الإسلامي من شمال إفريقية إلى صقلية وجنوب إيطاليا كان مصحوبا بازدهار الطب عند المسلمين، واستمر هذا الازدهار في إفريقية بعد عصر الأغالبة، أي في القرن الرابع الهجري (العاشر للميلاد) على أيام الفاطميين. من ذلك أننا نسمع عن الطبيب إسحق بن سليمان، الذي كان طبيبا فاضلا بليغا، عالما مشهورا بالحذق والمعرفة، جيد التصانيف، عالي الهمة.. وهو من أهل مصر، ثم سكن القيروان، ولازم إسحق بن عمران، وتتلمذ له. خدم الإمام أبو محمد عبيد الله المهدي صاحب إفريقية، وتوفى سنة 320 هـ (933 م). لم يتخذ امرأة ولا أعقب ولدا. قال: لي أربعة كتب تحمي ذكري أكثر من الولد، هي: كتاب الحميات، وكتاب الأغذية والأدوية، وكتاب البول، وكتاب الإسطفسات. وقد امتدح الطبيب "أبو الحسن على بن رضوان" كتابه في الحميات، وقال: «وقد علمت بكثير مما فيه، فوجدته لا مزيد عليه«.

أما أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد (المعروف بابن الجزار) فكان أيضا من مشاهير أطباء القيروان في تلك الحقبة، وكان ممن لقي إسحق بن سليمان وصحبه وأخذ عنه.

ويلفت النظر إلى أن أثر النفوذ الإسلامي في جنوب إيطاليا ليس مرتبطا بقسطنطين الإفريقي وحده في القرن الحادي عشر، وإنما لابد وأن يكون هذا التأثير قد انتقل قبل ذلك منذ القرن التاسع، ثم جاءت جهود قسطنطين الإفريقي في نقل الطب الإسلامي إلى جنوب إيطاليا - عن طريق ترجمة مؤلفات المسلمين في علم الطب إلى اللاتينية - لتتوج الجهود السابقة.

وفي ذلك يقول أحد الباحثين الغربيين:« إن كتب "جالينوس" في الطب لم يعرف منها سوى القليل في غرب أوربا في العصور الوسطى، "حتى عرفت مؤلفاته كاملة في مدرسة سالرنو في القرن الحادي عشر، وذلك عن طريق ترجمة هذه المؤلفات عن التراجم العربية التي نقلت عن اليونانية منذ وقت مبكر«.

اعتراف بالتميز

وقد بلغ من إعجاب ملوك المسيحيين بالحضارة الإسلامية في صقلية أن الملك "روجر الثاني" نقش على العملة التي سكها عبارة "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، مقرونة بالتاريخ الهجري. وتفيض المصادر المعاصرة العربية وغير العربية - بأخبار رعاية ملوك صقلية لعلماء المسلمين، وبخاصة "الإدريسي" وفي ذلك يقول الرحالة المعاصر "ابن جبير": إن ملك صقلية «كثير الثقة بالمسلمين، وساكن إليهم في أحواله والمهم من أشغاله».

أما الصفدي فيقول عن الملك روجر الثاني ـ ملك صقلية وجنوب إيطاليا- : «إنه كان محبا لأهل العلوم الفلسفية، وإن الإدريسي كان يجيء إليه راكبا بغلته، فإذا صار عنده تنحي (الملك) له عن مجلسه، فيأبى الإدريسي، فيجلسان معا». ويجمل المؤرخ "ابن الأثير" موقف ملوك صقلية من المسلمين والحضارة الإسلامية، فيقول: «إن ملك صقلية سلك طريق المسلمين من الجنائب والحجاب والسلاحية والجاندارية وغير ذلك. وخالف عادة الفرنج، فإنهم لا يعرفون شيئا منه.. وأكرم المسلمين وقربهم ومنع عنهم الفرنج فأحبوه«.

ويتساءل الدكتور سعيد عاشور إذا كان هذا هو موقف حكام وملوك صقلية النورمان من المسلمين وحضارتهم، ألا يكفي هذا للتدليل على أن مسيرة الحضارة العربية الإسلامية استمرت في صقلية وجنوب إيطاليا بعد سقوط دولة المسلمين في صقلية؟ مؤكدا أن نور الحضارة الإسلامية لم يَخْبُ في ذلك الوقت من حوض البحر المتوسط، وإنما استمر من القرن التاسع للميلاد حتى القرن الثاني عشر عندما ازدهرت مدرسة الطب في "سالرنو" هذا مع ملاحظة أن دولة النورمان شملت صقلية وجنوب إيطاليا جميعا، وهو ما أطلق عليه في التاريخ اسم "مملكة الصقليتين"، حيث شبه الجزء الجنوبي من إيطاليا بصقلية أخرى ثانية، وبأن سالرنو كانت تقع داخل نفوذ تلك الدولة، مما جعلها لا تقل عن غيرها من البلاد المحيطة بها؛ تأثرا بحضارة المسلمين في ذلك العصر.

ويضيف عاشور: «.. إن الباحثين أجمعوا على أن تقدم التشريح في الغرب الأوربي وفي جامعاته الناشئة جاء نتيجة لمؤثرات عربية إسلامية، ذلك لأن ترجمة مؤلفات ابن سينا والرازي وأبي القاسم إلى اللاتينية أحدثت ثورة شاملة في علم التشريح في غرب أوربا. وخاصة كتاب "التصريف لمن عجز عن التأليف" لأبي القاسم خلف بن عباس الزهراوي، المتوفى سنة 1107م، إذ ظل هذا الكتاب - بعد ترجمته إلى اللاتينية - المرجع الأساسي الذي اعتمد عليه الأوربيون، وبخاصة داخل الجامعات وكليات الطب، في الجراحة وتجبير العظام طوال عدة قرون تالية. وترك أبو القاسم أيضا مرجعا صغيرا في وصف الآلات المستخدمة في العمليات الجراحية وطرق استعمالها، مع توضيح كل ذلك بالرسوم. ويعتبر هذا المرجع الأول من نوعه في موضوعه، مما أكسبه أهمية كبرى في تاريخ الطب، بحيث ظل مرجعا أساسيا في كليات الطب بغرب أوروبا حتى القرن التاسع عشر».

لافتا إلى أن بعض مؤلفات علماء المسلمين في الطب - مثل كتاب "القانون" لابن سينا - ظلت مرجعا أساسيا في الجامعات الأوربية، حتى القرن التاسع عشر، وأنه منذ القرن السادس عشر ظهرت له عشرات الطبعات وفي ذلك يقول "أوزلر": «إن كتاب القانون لابن سينا استمر مرجعا أساسيا في الطب في العالم أجمع أطول من أي كتاب آخر«.


هناك تعليق واحد:

  1. عودتنا إلى ما كنا عليه ليست أمرًا صعبًا .. والنماذج تتوالى من المتميزين والنابهين من أبناء الأمة الذين يرفعون رأسنا عاليًا في مجالات عديدة ..

    ردحذف